التداخل بين البداية و النهاية في رواية « رهين الصبوتين» (*) للكاتب عبد الكريم ابراهمي. الجزء الثاني

admin31 أكتوبر 2022آخر تحديث : منذ سنة واحدة
التداخل بين البداية و النهاية في رواية « رهين الصبوتين» (*) للكاتب عبد الكريم ابراهمي. الجزء الثاني

بقلم : عبد الرحمان أهري

تبين مما تقدم ذكره أن المدينة العملاقة لم تستطع أن تنتشل غيلان من ذكرياته ، و من حبه للبادية و بلدته الصغيرة  ، وحبه لأميمة الدحراوي ، فهذان الحبان يسكنان قلبه ، فأصبح غيلان بهذا القلب سجين حبين أو رهين صبوتين ، فكانت الصبوة الأولى حبه  للبادية و البلدة ، فكانت البادية بالنسبة له كالرحم الجنين ، أما البلدة كانت عالمه الأرحب الواسع. أما الصبوة الثانية فهي حبه لأميمة . و بذلك يكون الكاتب قد أحسن اختيار العنوان لروايته ( رهين الصبوتين ) . و هذا لا يعني أن القارئ يجد السهولة في إيجاد الصلات الدلالية و الرمزية و الإيحائية بين العنوان و النص إلا بعد قطع مسافة طويلة في رحلته القرائية على متن الرواية. و قد قام الكاتب بتحفيز ذهن القارئ  لتخمين  أحداث وهمية ، و  إيهامه بها و إبعاد نظره عن الحقيقة ، الأمر الذي يجعل القارئ يُفاجأ بها.   يقول الكاتب على لسان السارد  :

“في ذلك المساء، و حيث كانت يده تلعب بيدها، رمى ببصره بعيدا، فانكشفت عيناه، و تغيرت سمرة وجهه، خاطبته :

– غيلان، ما الذي غير صفونا الآن ؟                                                                            …. –

لم يسبق له أن صارحها بسرّ تلك الانقباضة، التي تنتابه بين الفينة و الأخرى، في كل مرة كانت تسأله عنها، كان يهرب عن الجواب كأنما يخاف عليها لعنة قد تصيبها، إن هو باح لها بذلك السرّ.

في ذلك المساء، و حيثما هو يرمي ببصره بعيدا، عاودته بذاك السؤال :

– غيلان، ما الذي غير صفونا الآن ؟

سكت قليلا، و خلال ذلك السكوت، راودته، و لأول مرة، رغبة جامحة، زينت له الاستسلام لها، و حببت إليه أن يحشر رأسه بين أحضانها، و أن يسترسل في البكاء.

التفت إليها، و لا تزال صفرة تخالط سمرة وجهه، خاطبها:

– أميمة، أيتها الحبيبة، هل كنت لأستطيع أن أحمّلك شيئا، مازلت أعاني شدة وقعه في نفسي، و أنا الذي يخشى عليك هبة نسيم على صفحة خدك ؟ و لكنني في الوقت نفسه، لا أستطيع أن أكتمك سرًّا، ربما يكون كتمانه عنك سبباً في جفوة أو نفور.

في ذلك المساء، و حيثما كانت يده تلاعب يدها، أفضى إليها بسبب انزعاجه الشديد، و باح لها بسرّ تلك الانقباضة، التي تراوده بين الحين و الآخر ، فهمس في أذنها بأن حباًّ ثانيا، يكاد يبرح قلبه ، و أن فرحته بها لا تزال تزاحمها في قلبه صبوة ثانية، قال لها :

– أميمة، أنت و تلك الصبوة الثانية، صورتان تتراقصان في قلبي، و هل كنت أستطيع الحياة، إلا بأن أتملّى بالنظر في أنوار الصورتين ؟

في ذلك المساء، و حيثما هو يبوح لها بحب آخر يساكن قلبه، لم تسعفه الكلمات أن يكون شجاعًا، كامل الشجاعة، فلم يستطع أن يصارحها، بأن الحب الذي زعمه ثانيا، بعد حبّه لها، لم يكن في الحقيقة إلا حبه الأول، و أن تلك الصبوة التي سمّاها ثانية، لم تكن سوى أولى الصبوتين في قلبه.

– أميمة، إن قلباً يخفق في جوفي، فد تعشّق منذ أول أمره حب البادية، حيث قضيت هناك ميعة صباي، ثم حب هذه البلدة ثانيا، فكانت البادية بالنسبة لي كالرحم للجنين، و كانت البلدة عالمي الأرحب الواسع.

أضاف، و قد انفلتت يده من يدها، ثم ضاعت بين ثنايا جسده المتهالك :

– البعد عن العيش في بلدتي، و عن الاستئناس فيها بالقرب من البادية، هو السبب الخفي وراء تلك الانقباضة، و إنها لتنتابني كلما آذن الرحيل عنهما .” ( ص: 157، 158 )

إلى حدود تلك  الأسطر أؤكد على أن هذه الخلاصة الإجمالية لم تكن أكثر إجمالا من الخلاصة التي ضمنها الكاتب في روايته على لسان السارد من الصفحة 71 إلى الصفحة 75، و استشف أن القصد منه هو الحفاظ على إيقاع السرد المشوق حتى لا يتسلل الملل إلى القارئ . و أنقل بعض الفقرات من  قول السارد  :

” كلما نظرت في وجه صاحبي غيلان، ذكرتني رؤيته بذلك التراب النقي ، الذي يعلق بين الأحجار في أعالي الجبال، تراب لا تطؤه الأقدام ، تغسله الأمطار بمائها، و ترطبه الثلوج ببردها، و تمسح عليه اللواقح برياحها، فتبدو حباته تتلألأ تحت أنوار الشمس، و كأنها حبات من اللؤلؤ الصافية، لا تنبت فيه إلا أزهار الجبال، صفراء رشيقة، تهزها الرياح ما بين الأحجار، فتبد.و إحداها، و كأنها حور من العين، تلتف برداء أصفر من الزعفران.                                                                          …

عندما تعرفت إليه، أصفاني مودّته، و اتخذني خليلا له، أطلعني على كل شيء يخصّه، فصرت أعرف عنه كل شيء، حتى إنه ليخيل إليّ أحيانا، أنني صورة عنه، حكى لي كل ما عاشه في بداية حياته، أعرف عنه كل شيء، حتى التفاصيل و الجزئيات أعرفها، و کأنني عشتها معه.                                                                                ….

هي إذًا ، قصة أعرف صاحبها، كما أعرف نفسي، و أعرف أحداثها و تفاصيلها، كما أعرف أحداثي في يوم البارحة، و أعرف تلك الشخصيات التي صنعت الأحداث، أسماءها، و مواقفها، و أحلامها، و دواخل أنفسها، بل و إن لي موقفا من كل شخصية، فقد أحبّ بعضها أشد الحب، و قد أبغض بعضها أشدّ البغض، أعيش معها آمالها، و أشاطرها آلامها. يتبع

                                                                                ….

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة